فصل: تفسير الآيات (14- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (14- 18):

{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)}
{لَهُ دَعْوَةُ الحق} أي الدعوةُ الثابتة الواقعة في محلها المجابةُ عند وقوعِها، والإضافةُ للإيذان بملابستها للحق واختصاصِها به وكونِه بمعزل من شائبة البطلانِ والضَّياع والضلال كما يقال كلمةُ الحق، وقيل: له دعوةُ الله سبحانه أي الدعوةُ اللائقة بحضرته كما في قوله عليه الصلاة والسلام: «فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله» والتعرضُ لوصف الحقّية لتربية معنى الاستجابةِ، والأولى هو الأولُ لقوله تعالى: {وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ فِي ضلال} وتعلقُ الجملتين بما قبلهما من حيث أن إهلاكَ أربد وعامرٍ مِحالٌ من الله تعالى وإجابةٌ لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما إن كانت الآية نزلت في شأنهما أو من حيث إنه وعيدٌ للكفرة على مجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلول مِحالِه بهم وتحذيرٌ لهم بإجابة دعوتِه عليهم {والذين يَدْعُونَ} أي الأصنامَ الذين يدعوهم المشركون فحُذف العائد {مِن دُونِهِ} من دون الله عز وجل {لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء} من طلباتهم {إِلاَّ كباسط كَفَّيْهِ إِلَى الماء} أي إلا استجابةً كائنة كاستجابه الماء لمن بسَط كفيه إليه من بعيد، فالاستجابةُ مصدرٌ من المبني للفاعل على ما يقتضيه الفعلُ الظاهر أعني لا يستجيبون، ويجوز أن يكون من المبنيِّ للمفعول ويُضاف إلى الباسط بناءً على استلزام المصدرِ من المنبي للفاعل للمصدر من المبني للمفعول وجوداً وعدماً، فكأنه قيل: لا يستجيبون لهم بشيء فلا يستجاب لهم إلا استجابةً كائنة كاستجابة من بسط كفيه إلى الماء كما في قوله:
وعضةُ دهرٍ يا ابنَ مروانَ لم تدَع ** من المال إلا مُسْحتٌ أو مجلِّفُ

أي لم تدع فلم يبق إلا مسحتٌ أو مجلِّف {لِيَبْلُغَ} أي الماءُ بنفسه من غير أن يؤخذ بشيء من إناء ونحوه {فَاهُ وَمَا هُوَ} أي الماء {بِبَالِغِهِ} ببالغ فيه أبداً لكونه جماداً لا يشعُر بعطشه ولا ببسط يدِه إليه فضلاً عن الاستطاعة لما أراده من البلوغ إلى فيه، شبّه حالُ المشركين في عدم حصولهم في دعاء آلهتِهم على شيء أصلاً وركاكةِ رأيهم في ذلك بحال عطشانَ هائمٍ لا يدري ما يفعل قد بسط كفيه من بعيد إلى الماء يبغي وصولَه إلى فيه من غير ملاحظةِ التشبيه في جميع مفرداتِ الأطراف، فإن الماءَ في نفسه شيءٌ نافع بخلاف آلهتِهم، والمرادُ نفيُ الاستجابةِ رأساً إلا أنه قد أُخرج الكلامُ مُخرج التهكم بهم فقيل: لا يستجيبون لهم شيئاً من الاستجابة إلا استجابةً كائنة في هذه الصورةِ التي ليست فيها شائبةُ الاستجابة قطعاً فهو في الحقيقة من باب التعليقِ بالمحال، وقرئ: {تدعون} بالتاء وكباسطٍ بالتنوين {وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ فِي ضلال} أي ذهاب وضَياعٍ وخَسار.
{وَللَّهِ} وحده {يَسْجُدُ} يخضع وينقاد لا لشيء غيرِه استقلالاً ولا اشتراكاً فالقصرُ ينتظم القلبَ والإفراد {مَن فِي السموات والأرض} من الملائكة والثقلين {طَوْعًا وَكَرْهًا} أي طائعين وكارهين وانقيادَ طوعٍ وكُرهٍ، أو حالَ طوعٍ وكره، فإن خضوعَ الكلّ لعظمة الله عز وجل وانقيادَهم لإحداث ما أراده فيهم من أحكام التكوين والإعدام شاءوا أو أبَوا، وعدمُ مداخلةِ حكمِ غيره بل غيرِ حكمِه تعالى في تلك الشؤون مما لا يخفى على أحد {وظلالهم} أي وتنقاد له تعالى ظلالُ مَنْ له ظلٌ منهم أعني الإنسَ حيث تتصرف على مشيئته وتتأتّى لإرادته في الامتداد والتقلّص والفيء والزوال {بالغدو والأصال} ظرفٌ للسجود المقدّر أو حالٌ من الظلال، وتخصيصُ الوقتين بالذكر مع أن انقيادها متحققٌ في جميع أوقات وجودِها لظهور ذلك فيهما، والغدو جمع غَداة كفتيّ في جمع فتاة والآصالُ جمع أصيل، وقيل: جمع أُصُل وهو جمعُ أصيل، وهو ما بين العصر والمغربِ، وقيل: الغدوّ مصدرٌ ويؤيده أنه قرئ: {والإيصالِ} أي الدخول في الأصيل. هذا وقد قيل إن المرادَ حقيقةُ السجود فإن الكفرة حال الاضطرارِ وهو المعنيُّ بقوله تعالى: {وَكَرْهًا} يخُصّون السجودَ به سبحانه، قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} ولا يبعُد أن يخلُق الله تعالى في الظلال أفهاماً وعقولاً بها تسجُد لله سبحانه كما خلقها للجبال حتى اشتغلت بالتسبيح وظهر فيها آثارُ التجلّي كما قاله ابن الأنباري، ويجوز أن يراد بسجودها ما يشاهَد فيها من هيئة السجود تبعاً لأصحابها، وأنت خبير بأن اختصاصَ سجودِ الكافر حالة الضرورةِ والشدة بالله سبحانه لا يُجدي فإن سجودَهم لأصنامهم حالةَ الرخاء مُخِلُّ بالقصر المستفادِ من تقديم الجار والمجرور فالوجهُ حملُ السجودِ على الانقياد، ولأن تحقيقَ انقيادِ الكل في الإبداع والإعدامِ له تعالى أدخلُ في التوبيخ على اتخاذ أولياءَ من دونه من تحقيق سجودِهم له تعالى، وتخصيصُ انقيادِ العقلاءِ بالذكر مع كون غيرِهم أيضاً كذلك لأنهم العُمدة وانقيادهم دليل انقيادُ غيرهم على أنه بين ذلك بقوله عز وجل: {قُلْ مَن رَّبُّ السموات والأرض} فإنه لتحقيق أن خالقَهما ومتولّيَ أمرهما مع ما فيهما على الإطلاق هو الله سبحانه وقوله تعالى: {قُلِ الله} أمرٌ بالجواب من قِبله عليه الصلاة والسلام إشعاراً بأنه متعيِّن للجوابية فهو والخصمُ في تقريره سواءٌ، أو أمرٌ بحكاية اعترافِهم إيذاناً بأنه أمرٌ لابد لهم من ذلك كأنه قيل: احْكِ اعترافَهم فبكِّتْهم بما يلزمهم من الحجة وألقِمْهم الحجَر، أو أمرٌ بتلقينهم ذلك إن تلعثموا في الجواب حذراً من الإلزام فإنهم لا يتمالكون إذ ذاك ولا يقدرون على إنكاره {قُلْ} إلزاماً لهم وتبكيتاً {أفاتخذتم} لأنفسكم والهمزةُ لإنكار الواقعِ كما في قولك: أضربت أباك؟ لا لإنكار الوقوع كما في قولك: أأضرب أبي؟ والفاء للعطف على مقدر بعد الهمزةِ أي أعلمتم أن ربهما هو الله الذي ينقاد لأمره مَنْ فيهما كافةً فاتخذتم عَقيبَه {مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} عاجزين {لاَ يَمْلِكُونَ لانْفُسِهِمْ نَفْعًا} يستجلبونه {وَلاَ ضَرّا} يدفعونه عن أنفسهم فضلاً عن القدرة على جلب النفعِ لغيره ودفع الضررِ عنه لا على أن يكون الإنكارُ متوجِّهاً إلى المعطوفَين معاً كما في قوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} إذا قُدّر المعطوف عليه ألا تسمعون، بل إلى ترتب الثاني على الأول مع وجوب أن يترتبَ عليه نقيضُه كما إذا قدّر أتسمعون، والمعنى أبعد أن علِمتم أن ربَّهما هو الله جل جلاله اتخذتم من دونه أولياءَ عجَزَةً؟ والحال أن قضيةَ العلم بذلك إنما هو الاقتصارُ على تولّيه فعكستم الأمر، كما في قوله تعالى: {كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى} ووصفُ الأولياء هاهنا بعدم المالكية للنفع والضر في ترشيح الإنكارِ وتأكيدهِ كتقييد الاتخاذِ هناك بالجملة الحالية أعني قولَه تعالى: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} فإن كلاًّ منهما مما ينفي الاتخاذَ المذكور ويؤكد إنكاره.
{قُلْ} تصوير لآرائهم الركيكة بصورة المحسوس {هَلْ يَسْتَوِى الأعمى} الذي هو المشركُ الجاهل بالعبادة ومستحقِها {والبصير} الذي هو الموحِّد العالم بذلك أو الأولُ عبارةٌ عن المعبود الغافل والثاني إشارةٌ إلى المعبود العالمِ بكل شيء {أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظلمات} التي هي عبارةٌ عن الكفر والضلال {والنور} الذي هو عبارةٌ عن التوحيد والإيمان، وقرئ بالياء.
ولمّا دل النظمُ الكريم على أن الكفرةَ فيما فعلوا من اتخاذ الأصنامِ أولياءَ من دون الله سبحانه في الضلال المحضِ والخطأ البحت بحيث لا يخفى بطلانُه على أحد وأنهم في ذلك كالأعمى الذي لا يهتدي إلى شيء أصلاً وليس لهم في ذلك شبهةٌ تصلح أن تكون منشأً لغلطهم وخطئهم فضلاً عن الحجة أُكّد ذلك فقيل: {أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ} أي بل أجعلوا له {شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ} سبحانه، والهمزةُ لإنكار الوقوعِ مع وقوعه وقوله: {خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ} هو الذي يتوجه إليه الإنكار وأما نفسُ الجعل فهو واقعٌ لا يتعلق به الإنكارُ بهذا المعنى والمعنى أنهم لم يجعلوا لله تعالى شركاءَ خلقوا كخلقه {فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ} بسبب ذلك وقالوا: هؤلاء خلقوا كخلقه تعالى فاستحقوا بذلك العبادةَ كما استحقها ليكونَ ذلك منشأً لخطئهم بل إنما جعلوا له شركاءَ ما هو بمعزل من ذلك بالمرة، وفيه ما لا يخفى من التعريض بركاكة رأيِهم والتهكم بهم {قُلْ} تحقيقاً للحق وإرشاداً لهم إليه {الله خالق كُلّ شَىْء} كافةً لا خالقَ سواه فيشاركَه في استحقاق العبادة {وَهُوَ الواحد} المتوحّدُ بالألوهية المتفرّدُ بالربوبية {القهار} لكل ما سواه فكيف يُتوهّم أن يكون له شريكٌ؟ وبعد ما مُثّل المشركُ والشركُ بالأعمى والظلماتِ، والموحدُ والتوحيدُ بالبصير والنور مُثّل الحقُّ الذي هو القرآنُ العظيم في فيضانه من جناب القدسِ على قلوب خاليةٍ عنه متفاوتةِ الاستعداد وفي جريانه عليها ملاحظةً وحفظاً وعلى الألسنة مذاكرةً وتلاوةً وفي ثباته فيهما مع كونه مُمِدّاً لحياتها الروحانية وما يتلوها من الملكات السنية والأعمالِ المرضيّة بالماء النازلِ من السماء السائلِ في أودية يابسةٍ لم تجرِ عادتُها بذلك سيلاناً مقدراً بمقدار اقتضتْه الحكمةُ في إحياء الأرضِ وما عليها الباقي فيها حسبما يدور عليه منافعُ الناس، وفي كونه حليةً تتحلّى به النفوسُ وتصل إلى البهجة الأبدية ومتاعاً يُتمتّع به في المعاش والمعاد بالذهب والفضة وسائر الفلزّات التي يُتخذ منها أنواعُ الآلات والأدواتِ وتبقى منتَفعاً بها مدةً طويلةً، ومُثّل الباطلُ الذي ابتُليَ به الكفرةُ لقصور نظرِهم بما يظهر فيهما من غير مداخلةٍ له فيهما وإخلالٍ بصفائهما من الزبد الرابي فوقهما المضمحلّ سريعاً فقيل: {أَنزَلَ مِنَ السماء} أي من جهتها {مَاء} أي كثيراً أو نوعاً منه وهو ماءُ المطر {فَسَالَتْ} بذلك {أَوْدِيَةٌ} واقعةٌ مواقعه لا جميعُ الأودية إذ الأمطارُ لا تستوعبُ الأقطارَ وهو جمعُ وادٍ وهو مفرَجٌ بين جبال أو تلالٍ أو آكام على الشذوذ كنادٍ وأندية وناج وأنجية، قالوا: وجهُه أن فاعلا يجيء بمعنى فعيل، كناصر ونصير، وشاهد وشهيد، وعالم وعليم، وحيث جُمع فعيل على أفعلة كجريب وأجرِبة جُمع فاعلٌ أيضاً على أفعلة، فإن أريد بها ما يسيل فيها مجازاً فإسنادُ السيلانِ إليها حقيقيٌّ وإن أريد معناها الحقيقيُّ فالإسنادُ مجازيٌّ كما في جرى النهرُ، وإيثارُ التمثيل بها على الأنهار المستمرةِ الجريانِ لوضوح المماثلةِ بين شأنها وشأنِ ما مُثّل بها كما أشير إليه {بِقَدَرِهَا} أي سالت ملتبسةً بمقدارها الذي عينه الله تعالى واقتضتْه حكمتُه في نفع الناس أو بمقدارها المتفاوتِ قلةً وكثرةً بحسب تفاوتِ محالّها صِغَراً وكِبَراً لا بكونها مالئةً لها منطبقةً عليها بل بمجرد قلّتها بِصغرها المستلزِمِ لقلة مواردِ الماء وكثرتها بكِبَرها المستدعي لكثرة الموارد، فإن موردَ السيل الجاري في الوادي الصغير أقلُّ من مورد السيل الجاري في الوادي الكبير، هذا إن أريد بالأودية ما يسيل فيها، أما إن أريد بها معناها الحقيقيُّ فالمعنى سالت مياهُها بقدر تلك الأوديةِ على نحو ما عرفته آنفاً، أو يراد بضميرها مياهُها بطريق الاستخدام ويراد بقدَرها ما ذكر أولاً من المعنيين {فاحتمل السيل} الجاري في تلك الأودية أي حملَ معه {زَبَدًا} أي غُثاء ورَغوةً، وإنما وُصف ذلك بقوله تعالى: {رَّابِيًا} أي عالياً منتفخاً فوقه بياناً لما أريد بالاحتمال المحتمَلِ لكون الحميلِ غيرَ طافٍ كالأشجار الثقيلة وإنما لم يُدفع ذلك الاحتمالُ بأن يقال: فاحتمل السيلُ فوقه للإيذان بأن تلك الفوقيةَ مقتضى شأنِ الزبدِ لا من جهة المحتمَل تحقيقاً للمماثلة بينه وبين ما مُثّل به من الباطل الذي شأنُه الظهورُ في بادي الرأي من غير مداخلةٍ في الحق {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار} أي يفعلون الإيقادَ عليه كائناً في النار والضميرُ للناس أُضمر مع عدم سبق الذكرِ لظهوره وقرئ بالخطاب {ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ متاع} أي لطلب اتخاذِ حليةٍ وهي ما يُتزيّن ويُتجمّل به كالحِليِّ المتخَذَة من الذهب والفضة أو اتخاذِ متاعٍ وهو ما يتمتع به من الأواني والآلات المتخَذةِ من الرصاص والحديد وغيرِ ذلك من الفِلزّات {زَبَدٌ} خبث {مّثْلِهِ} مثلُ ما ذكر من زبد الماء في كونه رابياً فوقه، فقوله: زبدٌ مبتدأٌ خبرُه الظرفُ المقدم، ومن ابتدائيه دالةٌ على مجرد كونِه مبتدأ وناشئاً منه لا تبعيضيةٌ معرِبة عن كونه بعضاً منه كما قيل، لإخلال ذلك بالتمثيل، وفي التعبير عن ذلك بالموصول والتعرضِ لما في حيّز الصلةِ من إيقاد النار عليه جرْيٌ على سنن الكِبرياء بإظهار التهاونِ به كما في قوله تعالى: {فَأَوْقِدْ لِى ياهامان ياهامان عَلَى الطين} وإشارةٌ إلى كيفية حصولِ الزبدِ منه بذوبانه، وفي زيادة {في النار} إشعارٌ بالمبالغة في الاعتمال للإذابة وحصولِ الزبد كما أشير إليه، وعدمُ التعرض لإخراجه من الأرض لعدم دخلِ ذلك العنوانِ في التمثيل كما أن لعنوان إنزالِ الماءِ من السماء دخلاً فيه حسبما فصّل فيما سلف بل له إخلالٌ بذلك.
{كذلك} أي مثلَ ذلك الضربِ البديعِ المشتملِ على نُكت رائقةٍ {يَضْرِبُ الله الحق والباطل} أي مثَلَ الحق ومثل الباطل، والحذفُ للإنباء عن كمال التماثل بين الممثَّل والممثلِ به كأنه المثَلَ المضروبَ عينُ الحقِّ والباطلِ، وبعد تحقيق التمثيلِ مع الإيماء في تضاعيف ذلك إلى وجوه المماثلة على أبدع وجوهٍ وآنقِها حسبما أشير إليه في مواقعها بيِّن عاقبةُ كل من الممثّلين على وجه التمثيل مع التصريح ببعض ما به المماثلة من الذهاب والبقاءِ تتمةً للغرض من التمثيل من الحث على اتباع الحقِّ الثابتِ والردْعِ عن الباطل الزائد فقيل: {فَأَمَّا الزبد} من كلَ منهما {فَيَذْهَبُ جُفَاء} أي مرمياً به، وقرئ: {جُفالاً} والمعنى واحد {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس} منهما كالماء الصافي والفِلزِّ الخالص {فَيَمْكُثُ فِي الأرض} أما الماء فيثبت بعضُه في مناقعه ويسلك بعضه في عروق الأرضِ إلى العيون والقنا والآبار وأما الفلزُّ فيصاغ من بعضه أنواعُ الحِليِّ ويتخذ من بعضه أصنافُ الآلات والأدوات فيُنتفع بكل من ذلك أنواعَ الانتفاعات مدةً طويلة، فالمرادُ بالمكث في الأرض ما هو أعمُّ من المكث في نفسها ومن البقاء في أيدي المتقلّبين فيها وتغييرُ ترتيبِ اللفِّ الواقعِ في الفذْلكة الموافقِ للترتيب الواقع في التمثيلِ لمراعاة الملاءمةِ بين حالتي الذهاب والبقاءِ وبين ذكرَيهما فإن المعتبَر إنما هو بقاءُ الباقي بعد ذهاب الذاهبِ لا قبله.
{كذلك يَضْرِبُ الله} أي مثلَ ذلك الضرب العجيبِ يضرب {الأمثال} في كل باب إظهاراً لكمال اللطفِ والعنايةِ في الإرشاد والهداية، وفيه تفخيمٌ لشأن هذا التمثيلِ وتأكيدٌ لقوله: {كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل} إما باعتبار ابتناءِ هذا التمثيلِ الأول أو بجعل ذلك إشارةً إليهما جميعاً، وبعد ما بُيِّن شأنُ كل من الحق والباطلِ حالاً ومآلاً أُكملَ بيانٍ شُرع في بيان حالِ أهلِ كل منهما مآلاً تكميلاً للدعوة ترغيباً وترهيباً فقيل: {لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبّهِمُ} إذ دعاهم إلى الحق بفنون الدعوةِ التي من جملتها ضربُ الأمثال فإنه ألطفُ ذريعةٍ إلى تفهيم القلوب الغبيةِ وأقوى وسيلةٍ إلى تسخير النفوسِ الأبية، كيف لا وهو تصويرٌ للمعقول بصورة المحسوسِ وإبرازٌ لأوابد المعاني في هيئة المأنوس فأيُّ دعوةٍ أولى منه بالاستجابة والقَبول {الحسنى} أي المثوبةُ الحسنى وهي الجنة {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ} وعاندوا الحقَّ الجليَّ {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض} من أصناف الأموال {جَمِيعاً} بحيث لم يشِذَّ منه شاذٌّ في أقطارها أو مجموعاً غيرَ متفرقٍ بحسب الأزمان {وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ} أي بما في الأرض ومثلَه معه جميعاً ليتخلّصوا عما بهم، وفيه من تهويل ما يلقاهم ما لا يحيط به البيانُ، فالموصولُ مبتدأٌ والشرطيةُ كما هي خبرُه لكن لا على أنها وضُعت موضِعَ السوآى فوقعت في مقابلة الحُسنى الواقعةِ في القرينة الأولى لمراعاة حسنِ المقابلة فصار كأنه قيل: وللذين لم يستجيبوا له السوآى كما يوهم، فإن الشرطيةَ وإن دلت على كمال سوءِ حالِهم لكنها بمعزل من القيام مقامَ لفظ السوآى مصحوباً باللام الداخلةِ على الموصول أو ضميرِه، وعليه يدور حصولُ المرام، وإنما الواقعُ في تلك المقابلة سوءُ الحساب في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوء الحساب} وحيث كان اسمُ الإشارة الواقعُ مبتدأً في هذه الجملة عبارةً عن الموصول الواقعِ مبتدأً في الجملة السابقة كان خبرُها أعني الجملةَ الظرفية خبراً عن الموصول في الحقيقة ومبيِّناً لإبهام مضمونِ الشرطيةِ الواقعةِ خبراً عنه أولاً، ولذلك تُرك العطفُ فصار كأنه قيل: والذين لم يستجيبوا له لهم سوءُ الحساب، وذلك في قوة أن يقال: وللذين لم يستجيبوا له لهم سوءُ الحساب مع زيادة تأكيدٍ فتم حسنُ المقابلة على أبلغ وجهٍ وآكدِه، ثم بيِّن مؤدى ذلك فقيل: {وَمَأْوَاهُمُ} أي مرجعهم {جَهَنَّمَ} وفيه نوعُ تأكيد لتفسير الحسنى بالجنة {وَبِئْسَ المهاد} أي المستقرُّ، والمخصوصُ بالذم محذوفٌ، وقيل: اللام في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبّهِمُ} متعلقةٌ بقوله: {يَضْرِبُ الله الامثال} أي الأمثالَ السالفةَ وقوله: {الحسنى} صفةٌ للمصدر أي استجابوا الاستجابةَ الحسنى وقوله: {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ} معطوفٌ على الموصول الأولِ، وقوله: لو أن لهم الخ، كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيان ما أُعدّ لغير المستجيبين من العذاب، والمعنى كذلك يضرب الله الأمثالَ للمؤمنين المستجيبين والكافرين المعاندين، أي هما مثلاً الفريقين.
وأنت خبير بأن عنوانَ الاستجابة وعدمَها لا مناسبة بينه وبين ما يدور عليه أمرُ التمثيل وأن الاستعمالَ المستفيضَ دخولُ اللامِ على من يُقصد تذكيره بالمثَل، نعم قد يُستعمل في هذا المعنى أيضاً كما في قوله سبحانه: {ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ آمنوا امرأة فِرْعَوْنَ إِذْ} ونظائرِه، على أن بعضَ الأمثالِ المضروبة لاسيما المثلُ الأخيرُ الموصول بالكلام ليس مثلَ الفريقين بل مثلٌ للحق والباطل ولا مساغ لجعل الفريقين مضروباً لهم أيضاً بأن يُجعل في حكم أن يقال: كذلك يضربُ الله الأمثالَ للناس إذ لا وجه حينئذ لتنويعهم إلى المستجيبين وغيرِ المستجيبين فتأمل.